في الوقت الذي يتجدد فيه الحديث مرة أخري عن فرصة سانحة لإحياء عملية السلام والتوصل إلي حل شامل ومتكامل للصراع العربي الإسرائيلي في ظل أجواء قمة الاتحاد من أجل المتوسط, تواصل إسرائيل خططها لتغيير الأوضاع الجغرافية والديموجرافية بالأراضي المحتلة لتهديد التكامل الإقليمي والشكل النهائي للدولة الفلسطينية المرتقبة, كما أن هذه التغييرات من شأنها فرض أمر واقع علي قضايا الوضع النهائي سواء من خلال توسيع المستوطنات القائمة وإرساء مستوطنات جديدة أو مواصلة بناء الجدار العازل بين الضفة الغربية وإسرائيل.
وهذه الإجراءات الأحادية التي تتخذها إسرائيل تشكل صراحة جرائم حرب طبقا للقانون الدولي ووفقا لقانون المحكمة الجنائية الدولية التي وضعت سيفها علي رقبة الرئيس السوداني عمر البشير بغير أدلة دامغة بينما تعامت عن جريمة الاستيطان وجرائم المستوطنين!
وهل هناك جريمة حرب أبشع من محاولة إسرائيل فرض حل قسري يتبلور في كيان سياسي فلسطيني يشمل أكبر عدد من الفلسطينيين علي أصغر رقعة من الأرض... وفي سبيل تحقيق هذه الرؤية تسعي حكومة أولمرت حاليا لالتهام أكبر مساحة من الأراضي الفلسطينية عن طريق بناء الجدار العازل وتكثيف النشاط الاستيطاني, وبذلك يجد الفلسطينيون أنفسهم في سجن كبير محاصر من الشرق والغرب بالجدران العازلة والمستوطنات الإسرائيلية, والواقع أن هذه المشروعات ماهي إلا تنفيذ لأفكار قديمة تخدم الاستراتيجية الإسرائيلية وأهدافها, وليس لأسباب أمنية كما يزعمون ويزعم حماتهم الذين يوفرون لهم الحصانة ضد المساءلة السياسية وضد الملاحقة الجنائية الدولية.
والحقيقة أن فكرة الجدران العازلة فكرة راسخة في العقلية الإسرائيلية ومستمدة من نظرية جابوتنسكي الأب الروحي للصهيونية عن الحائط الحديدي.. كما أن فكرة إنشاء سورين عازلين واحد بطول غور الأردن والثاني غرب الضفة ترجع تحديدا إلي خريطة وضعها شارون عام1983 عندما كان وزيرا للجيش وتهدف إلي ضم هذه الأراضي لإسرائيل, وبدأت ملامح الجدار العازل تتبلور بعد حرب الخليج الثانية عام1990 حين بدأت إسرائيل خطوات الفصل غير المباشر بين سكان الضفة وإسرائيل داخل حدود1948 بإصدار تصاريح لكل فلسطيني يريد الدخول إلي الخط الأخضر للعمل أو ماشابه ذلك..
وفي عام1993 اتخذ رابين ـ ردا علي عمليات المقاومة ـ قرارا يقضي بإغلاق الضفة الغربية عن فلسطين المحتلة عام1948 واقترح حينها إنشاء مايسمي الجدار العازل ولكن الفكرة لم تلق رواجا في ذلك الحين ولكنها بدأت تأخذ طريقها للتنفيذ الفعلي بعد اندلاع انتفاضة الأقصي عام2000.
وطبقا للبيانات والإحصائيات الرسمية الإسرائيلية يبلغ طول الجدار العنصري الفاصل نحو350 كم, وتقدر تكلفة الكيلومتر الواحد بمليون دولار وقد تصل أحيانا إلي مليوني دولار.. وهذا الجدار لايلتزم بشكل أساسي بمسار الخط الأخضر خط4 يونيو1967 وإنما يرتكز علي الحواجز الطوبغرافية والديموجرافية, حيث ينحني وينحرف في الكثير من المناطق لضم مستوطنات يهودية وأراض فلسطينية إلي إسرائيل ويصل ارتفاع الجدار إلي8 أمتار تعلوه أسلاك شائكة وبه أبراج مراقبة في مواقع عديدة وكذلك أجهزة إنذار مبكر إلكترونية.
ثم إن الجدار يتخذ أشكالا متنوعة تختلف من منطقة إلي أخري ففي الأماكن التي فيها مناطق تمركز السكان الفلسطينيين والإسرائيليين قريبة من بعضها يتخذ الجدار العازل شكل جدار مرتفع من الخرسانة المسلحة بحجة منع تسلل الفلسطينيين, بينما في مناطق أخري يكون الجدار عبارة عن أسوار إلكترونية شائكة ويتضمن أنظمة ونقاط تفتيش ومعسكرات للجيش ودوريات للشرطة, كما يوجد منطقة عسكرية عازلة بين الجدار والخط الأخضر وتمتد مساحتها بين30:100 كم فضلا عن منطقة أمنية أخري تمتد داخل الأراضي وهو مايعرف بجدار العمق يقع إلي الشرق من الجدار العازل.
***
والحقيقة أن قيام إسرائيل ببناء الجدار العازل وتوسيع وإنشاء مستوطنات جديدة يعد انتهاكا لنصوص القانون الدولي والمعاهدات الدولية, حيث تنص الاتفاقية الدولية بشأن قمع وعقاب جريمة الفصل العنصري الأبارتهيد لعام1978 علي أن جريمة الفصل العنصري تتضمن القيام بإجراءات واتخاذ سياسات مماثلة لتلك التي كانت تمارسها جنوب أفريقيا المادة2 من الاتفاقية وهو ماينطبق علي إقامة جدار الفصل العنصري. فضلا عن أن أية إجراءات تؤدي إلي تدمير أو مصادرة ممتلكات الأراضي المحتلة كعقاب جماعي أمر محرم بمقتضي اتفاقية جنيف الرابعة لعام1949 التي وقعت عليها إسرائيل حيث تشير المادة47 من الاتفاقية التي تحرم علي الجهة المحتلة أن تقوم بأي تغيير علي الممتلكات بالأراضي المحتلة لأي غرض كان,والقانون الدولي يحرم مصادرة ممتلكات المواطنين الواقعين تحت الاحتلال.
إن إسرائيل تتجاهل أن ضم الأراضي المحتلة إلي أراضي دولة الاحتلال محرم بمقتضي المادة52 من اتفاقية لاهاي لعام1907 التي تعتبر جزءا من العرف الدولي. كما أن إنشاء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة يتعارض مع أحكام اتفاقية جنيف الرابعة المادة49 التي تحظر قيام قوات الاحتلال بنقل مواطنيها إلي الأراضي المحتلة... ويكفي أن أشير إلي نص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بتجريم سياسة الاستيطان الإسرائيلية واعتباره من جرائم الحرب واعتبار المستوطنين مجرمي حرب... ولكن حماة الشرعية الدولية ورعاة المحكمة الجنائية الدولية مهتمون باقامة الدعوي ضد الرئيس السوداني دون اعتبار للحصانة التي يتمتع بها ويغمضون عيونهم عن مجرمي الحروب الحقيقيين.
والخلاصة أن سياسة الاستيطان الإسرائيلية تشكل انتهاكا للقانون الدولي الإنساني, حيث تؤدي إلي حرمان الفلسطينيين من ممارسة حقوقهم الأساسية وعلي رأسها حق تقرير المصير والحق في الاحتفاظ بأملاك وحق استغلال الموارد الطبيعية لبلادهم والحق في حرية التنقل, كما أن سياسة الاستيطان ترسخ الفصل العنصري المرفوض دوليا.
ورغم أن مجلس الأمن استنكر سياسة الاستيطان وطالب بإيقافها من خلال عدة قرارات أبرزها القرار475 الذي استنكر الاستيطان الإسرائيلي وطالب الدول الأعضاء بعدم مساعدة إسرائيل في تنفيذ برنامجها الاستيطاني وطالب بتوقف إسرائيل عن إجراء تغييرات علي الوضع القائم علي الأرض, كما تناقش الجمعية العامة في دورتها السنوية كل عام قرارا بشأن المستوطنات الإسرائيلية إلا أن إسرائيل مستندة إلي الحماية الأمريكية لاتعر هذه القرارات أي اهتمام بما فيها قرارات مصنوعة أمريكيا مثل تقرير ميتشيل الذي يؤكد ضرورة تجميد إسرائيل لأنشطتها الاستيطانية بما في ذلك ما تطلق عليه النمو الطبيعي للمستوطنات.
ومن الواضح أنه مثلما استخدمت إسرائيل في الماضي الحجج العسكرية لإنشاء المستوطنات التي تحولت بمرور الوقت إلي أمر واقع تعمل الحكومة الإسرائيلية الحالية علي استخدام الحجج الأمنية لإنشاء الجدار العازل الذي سيتحول بمرور الوقت لأمر واقع يسهم في ضم المزيد من الأراضي إلي إسرائيل.. ولأن الإسراع ببدء المفاوضات قد يحول دون استمرار إسرائيل في مخططاتها أو علي الأقل يحفظ ماتبقي من الأرض المحتلة تمهيدا لإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة تعمد إسرائيل إلي وضع العقبات والعراقيل لكسب الوقت.
ومن هنا يجب أن يصر الفلسطينيون علي أن تكون نقطة البداية لاستئناف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي هي ضرورة وقف الإجراءات الإسرائيلية الأحادية الجانب التي تتخذها إسرائيل في هذا الصدد وليس فقط بحث الترتيبات الأمنية والاصرار علي وقف بناء الجدار العازل الذي لم تتطرق له خريطة الطريق والعمل علي تفكيك المستوطنات الجديدة الثابتة ووقف مشروعية توسيع المستوطنات وعدم الاكتفاء بإعلان الحكومة الإسرائيلية عن تفكيك بؤر استيطانية صغيرة تضم بعض الكرفانات المتنقلة.
أريد أن أقول بوضوح إن استمرار بناء الجدار العازل وتكثيف المستوطنات معناه عدم قيام الدولة الفلسطينية القابلة للوجود والاستمرار, فبين الجدار العازل والمستوطنات اليهودية ترغب إسرائيل في حصار الدولة الفلسطينية الوليدة وبين مطالب الإسرائيليين الأمنية وما تتخذه علي الأرض من إجراءات تهدد الدولة الفلسطينية ذاتها يجد الفلسطينيون أنفسهم محاصرين بين خيارين إما استمرار المقاومة العنيفة دفاعا عن الحقوق الأساسية للفلسطينيين مع عدم وضوح الرؤية بوجود جدوي لهذه المقاومة في المنظور القريب, وإما إعلان الهدنة والبدء في التفاوض لإنقاذ الأرض الفلسطينية والواقع أن السبب الحقيقي وراء هذا المأزق الفلسطيني يكمن في غياب الأطر الواضحة التي علي أساسها ستتم تسوية قضايا الوضع النهائي في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل بوتيرة متسارعة الاستيلاء علي المزيد من الأراضي الفلسطينية.
***
وإذن ماذا ؟
إن من شأن هذه التغيرات التي يرسمها بناء الجدار العازل علي خريطة الضفة الغربية إيجاد واقع جديد علي الأراضي سيؤثر بشكل مباشر علي قضايا الوضع النهائي المتمثلة في الحدود والقدس والمياه والمستوطنات... فبالنسبة للقدس سيفرز الجدار العازل واقعا جديدا للمدينة بهدف تهويدها وعزلها وتحويل أحيائها إلي مناطق سكنية بين مستوطنات كبيرة وبؤر استيطانية, فضلا عن مخطط الجدار العازل الذي يطوق القدس ويحيط بها وسيؤدي ـ في حالة إتمامه ـ إلي أن تصبح القدس محاطة بالمستوطنات والمناطق اليهودية من كل جوانبها بحيث يصعب تصورها كعاصمة للدولة الفلسطينية كما سيؤدي هذا الجدار إلي تحقيق نظرية القدس الكبري وخنق تطور القدس الفلسطينية ويمنع امتدادها الطبيعي كما سيؤدي إلي ضم أحياء معاليه أدوميم وجفعات زئيف وجميع المستوطنات الواقعة خارج بلدية القدس, كما سيؤدي إلي إخراج قري ومناطق فلسطينية من حدود بلدية القدس, وبهذه الطريقة تتخلص إسرائيل من السكان الفلسطينيين في المدينة.
وبالنسبة لقضية المياه سيكون للجدار العازل تأثير بالغ علي حرمان الفلسطينيين من مصادر المياه حيث إن الأراضي التي تمت مصادرتها من أجل تنفيذ المرحلة الأولي من مشروع الجدار العازل تضم مايزيد علي50 بئرا من المياه الجوفية وتوفر هذه الآبار7 ملايين متر مكعب من المياه ولكن بعد إنشاء الجدار العازل سيتم حرمان الفلسطينيين منها أو علي الأقل سيكون حصولهم عليها صعبا, كما يفصل الجدار العازل مابين مصادر المياه وشبكات الري من ناحية وبين الأراضي الزراعية من ناحية أخري.
وعلي الرغم من نفي المسئولين الإسرائيليين أن الجدار العازل سيشكل حدودا فعلية لإسرائيل إلا أن التكلفة الهائلة للمشروع وحجمه الضخم يتنافي مع فكرة أنه إجراء مؤقت وستتم إزالته بعد التوصل إلي تسوية بشأن الحدود في مفاوضات الوضع النهائي, كما أن شكل الجدار وما يضمه من مستوطنات داخل إسرائيل وما به من أبراج مراقبة وأجهزة إنذار إلكترونية ودوريات للشرطة والأمن ونقاط تفتيش ومعابر ووحدات عسكرية علي طول الجدار يمنحه بالفعل صفة ومظهر الحدود الفعلية.
والأخطر من ذلك أن الجدار العازل يمر بأراضي الضفة الغربية وهو مايؤثر علي حياة210 آلاف فلسطيني يسكنون67 قرية ومدينة بالضفة الغربية حيث يوجد13 تجمعا سكانيا يسكنه11 ألفا وسبعمائة فلسطيني وجدوا أنفسهم سجناء في المنطقة ما بين الخط الأخضر والجدار العازل, كما أن المخطط الإسرائيلي يتضمن وجود جدار مزدوج أي جدار آخر يشكل عمقا للجدار العازل الفاصل مما سيوجد منطقة حزام أمني, الأمر الذي سيجعل من19 تجمعا سكانيا تضم128 ألفا و500فلسطيني محاصرين في مناطق وبؤر معزولة.
وفضلا عن كل ذلك فقد أدي هذا الجدار العازل إلي إعاقة حرية حركة الفلسطينيين وقدرتهم علي الوصول إلي حقولهم أو الانتقال إلي القري والمدن الفلسطينية الأخري لتسويق بضائعهم ومنتجاتهم كما أدي إلي الفصل بين36 تجمعا سكانيا شرق الجدار يسكنها72 ألفا و200فلسطيني وبين حقولهم وأرضهم الزراعية التي تقع غرب الجدار العازل.
ونتيجة لذلك وباعتراف الإسرائيليين أنفسهم فإن37% من هذه القري التي تعتمد علي الزراعة أصبحت دون مصدر اقتصادي وبذلك تفقد50% من الأراضي الزراعية و12كم من شبكات الري تم تدميرها, بالاضافة إلي تجريف5.7% من الأراضي الزراعية تمت خسارتها قبل جني المزارعين للمحصول والاستفادة منه... وأيضا فقد ترتب علي بناء الجدار مصادرة الأراضي الزراعية وتجريفها وتقييد حرية حركة المواطنين خسارة الفلسطينيين6500 وظيفة, وكذلك تدمير صناعة زيت الزيتون بعد أن كانت هذه المنطقة تنتج22000 طن من زيت الزيتون كل موسم كما سيتأثر إنتاج هذه المنطقة الذي كان يصل إلي50 طنا من الفاكهة و1000طن من الخضراوات كما ستمنع نحو10000 من الماشية من الوصول إلي المراعي التي تقع غرب الجدار العازل.
إن الجدار يمثل خطرا علي البيئة ومصادر المياه حيث تسيطر إسرائيل علي50 بئرا من المياه خلف الجدار, وبذلك يفقد الأهالي7 ملايين متر مكعب من المياه التي تشكل30% من مجموع ما يتم استهلاكه فلسطينيا من الحوض الغربي, كما ستفقد الضفة الغربية200 مليون متر مكعب مياه من نهر الأردن إذا تمت إقامة هذا الجدار في الجهة الشرقية وذلك وفق ما يسمي بخطة جونستون.
ولأن الزراعة تعتبر واحدة من أهم مصادر الدخل الرئيسية فإن معظم القري الفلسطينية ستتأثر بشكل سلبي من إقامة الجدار العازل, علما بأن أراضي هذه القري من أكثر أراضي الضفة الغربية خصوبة.. وليس يخفي علي أحد أن المساس بقطاع الزراعة معناه تردي الوضع الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية المحتلة وإلي تدهور حالة العديد من العائلات الفلسطينية ودفعها إلي خط الفقر.
والحقيقة أنه ليس صحيحا ما تردده إسرائيل من أن الدواعي الأمنية ومحاولة الحد من عمليات العنف داخل إسرائيل هي فقط ما يدعوها لبناء الجدار العازل وبناء المستوطنات التي تعزل القري الفلسطينية, وإنما هناك أهداف أخري أهمها: توفير عمق استراتيجي لمنطقة السهل علي البحر المتوسط التي تمثل نقطة ضعف أمنية بالنسبة لإسرائيل لتمركز الكثافة السكانية ومعظم المنشآت الحيوية بها, رغم أنها تمثل16% من مساحة إسرائيل.
إن هدف إسرائيل السيطرة علي معظم أجزاء الضفة الغربية التي تحتوي علي أكبر مخزون مياه جوفية, حيث إن أرضها صخرية لاتسمح بتسرب المياه, كما أن بعدها النسبي عن البحر ساعد علي ارتفاع درجة نقاء المياه التي لاتتأثر بملوحة البحر.
ولا ينكر الإسرائيليون أن أحد أهم أهدافهم من بناء هذا الجدار العازل هو العمل علي تأمين الحدود, سواء كانت الحدود الشرقية لمنع التواصل عبر الحدود المشتركة بين الفلسطينيين والأردنيين أو حماية حدود الخط الأخضر الذي تقع داخله المدن الإسرائيلية ذات الكثافة السكانية العالية.
وسواء كان صحيحا أو أنه مجرد بالونات اختبار ذلك القول بأن الجدار الفاصل والمستوطنات يمثلان إحدي أوراق الابتزاز السياسي لإسرائيل بهدف المقايضة بجزء منهما مقابل تطويع الموقف الفلسطيني بشأن القدس واللاجئين والحدود فإننا إزاء نموذج صارخ لاستهانة إسرائيل بالقانون الدولي ومقررات الشرعية الدولية ونظام المحكمة الجنائية الدولية.
***
مرة أخري وإذن ماذا ؟
إننا لم نعد بحاجة إلي مزيد من رؤية الحقيقة التي تقول إننا نعيش عصرا من الازدواجية الفجة وأن الأمر لم يعد مقتصرا علي ازدواجية المواقف السياسية وإنما أصبحنا نعاني من وطأة ازدواجية المعايير في العدالة القانونية الدولية.
إن توجيه الاتهام من جانب المحكمة الجنائية الدولية للرئيس السوداني عمر البشير بدعوي تورطه مع مسئولين سودانيين آخرين في ارتكاب جرائم حرب بإقليم دارفور ليس سوي قرار سياسي بالدرجة الأولي, وهو بمثابة دليل جديد علي أن القوي الممسكة بزمام النظام العالمي تستخدم شماعة حقوق الإنسان كأداة سياسية لفرض الهيمنة وتمرير المخططات التي تستهدف تفتيت وتقسيم دول المنطقة تحت راية الرغبة في رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط.
إن الذين يغمضون أعينهم عن جدار الفصل العنصري الذي أقرت محكمة العدل الدولية بعدم شرعيته ويتعامون عن قراءة نص صريح في نظام المحكمة الجنائية الدولية يعتبر الاستيطان جريمة حرب هم أنفسهم وعلي رأسهم المدعي العام لوري مورينو أوكامبو الذين لم ولن يجرأوا علي توجيه اتهام لشارون وبنيامين بن اليعازر لقتلهم الأسري المصريين ولايفكرون للحظة واحدة في التعامل مع الحصار اللاإنساني للفلسطينيين في قطاع غزة وهو حصار أجمعت كل المنظمات الحقوقية في العالم علي أنه جريمة ضد الإنسانية.
وربما نستطيع أن نفهم اليوم لماذا كانت أمريكا وإسرائيل ضمن7 دول في العالم فقط عارضت بشدة فكرة المحكمة الجنائية الدولية عندما جري إقرار نظامها الأساسي في روما عام1989..... وأيضا نستطيع أن نفهم الآن كيف أن أمريكا لم تكتف برفض التصديق علي إنشاء المحكمة الجنائية الدولية وإنما مارست ضغوطا عنيفة علي مجلس الأمن الدولي عام2002 وصلت إلي حد التهديد بسحب بعثاتها التي تعمل ضمن قوات حفظ السلام مالم يقرر مجلس الأمن منح جنودها حصانة استثنائية من المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية... وكالعادة رضخ مجلس الأمن للضغط والابتزاز الأمريكي!
ثم أقول في النهاية إننا نخطئ كثيرا إذا تصورنا أن تعرية الازدواجية الفاضحة في معايير العدالة الدولية يمكن وحده أن يوفر سلاحا دفاعيا في مواجهة هذا التوجه التصعيدي من جانب المحكمة الجنائية الدولية ضد السودان.
إننا بحاجة إلي جهد قانوني قادر علي التعامل مع إجراءات هذه المحكمة وليس فقط برفضها أو تجاهلها, خصوصا أن الادعاءات التي تحدث عنها المدعي العام أوكامبو لاتستند إلي أدلة دامغة, وأنها مجرد ترديد لمزاعم وادعاءات تطلقها جماعات المعارضة وبعض المنظمات الحقوقية ولايمكن مقارنتها بالأدلة الدامغة في الجرائم الأمريكية والإسرائيلية.
وفي إعتقادي أنه من السابق لأوانه اعتبار قرار الاتهام إدانة حتمية, لأن المحكمة الجنائية الدولية لم تعلن قبولها للاتهام بعد... ثم إن المتهم برئ حتي تثبت إدانته.
وللأسف الشديد هذا هو حال الدنيا التي نعيشها ويملك الأقوياء فيها حق تسمية جرائم الحرب في العراق بأنها نشر للديمقراطية وضمان لحقوق الإنسان.